موقع أبونا abouna.org - إعلام من أجل الإنسان | يصدر عن المركز الكاثوليكي للدراسات والإعلام في الأردن - رئيس التحرير: الأب د.رفعت بدر

نشر الجمعة، ٢٠ ديسمبر / كانون الأول ٢٠١٩

الأب صخر المقدسي.. ألف سلام على روحك الطاهرة

الأب د. رفعـــت بدر :

هكذا إذًا، عادت روح الأب بيتر مدروس إلى باريها، بعد سبعين سنة على هذه الأرض، منها 48 عامًا كاهنًا في البطريركية اللاتينية، التي تميّز فيها كواحد من ألمع كهنتها في تاريخها الحديث الذي يزيد على 170 عامًا. الأب بيتر حنا، الذي كان ينادي نفسه بـ"أبي البياطر صخر بن يحيى المقدسي"، كان حبيبًا للكلّ، وكانت الناس تسرُّ بالإصغاء إلى أحاديثه قلبًا وقالبًا: قلبًا لأنها مليئة بالكتاب الأعز – المقدس، وقالبًا لأنّ الأسلوب الذي كان يوصل المعلومة به كان شيّقًا وغير خالٍ من روح الفكاهة والرشاقة في التعبير، وتوجيه الفكرة، على حد تعبير سميّه القديس بطرس "بوداعة ووقار". لن نُعدّد اللغات التي يتقنها (وبالمناسبة كان يتقن اللهجات المحلية المحكية في كل لغة)، ولنّ نُعدّد الكتب التي دوّنها والمقالات التي خطّها، والدكتوراتات التي نالها.. كلّها صنعت من شخصيته -كما وصفها الأب بشير بدر- "استثنائية وخلطة عجيبة، وجامع المتناقضات". باختصار شخصيّة عبقريّة بما تحمل من ترحيب أشخاص عديدين بها وعدم فهمها من نفر قليل من الناس وأحيانًا عدم تقبلها. هي ذي الشخصية العبقرية التي لم ترافقها أبدًا شخصية متعجرفة أو متكبّرة، بل بقي التواضع رفيقه، والبساطة نهج حياته. لم يكن معروفًا فقط في الأوساط الكنسيّة، بل تخطاها إلى العالمية، وإلى الآفاق الثقافية الواسعة، وإلى عالم العروبة المثقل بجراح الماضي والحاضر وآمال - ومخاوف المستقبل. فكان منذ سنوات الرفيق الدائم لمركز القدس للدراسات السياسية، وتصادق مع مديره عريب الرنتاوي الذي اكتشف هذه الشخصية في عمّان أثناء النقاشات التي أدارها حول "المسيحيون وربيع العرب" (من 2013 إلى 2018)، فأبهر "بطرس" الحضور من أول مداخلة ارتجاليّة، وأصبح على أجندة المؤتمرات في الأردن وفي لبنان. وكان الصديق الدائم لموقع أبونا، وقد خطّ عليه المئات من المقالات، وكان المرجع الرئيسي في حالة الشكّ من أمر ما، أو لدى ورود سؤال محيّر أو إشكال لغوي للترجمة والتوثيق أو قضيّة مستجدة وساخنة. لذلك دعت هالة سالم، من مركز القدس، له بالشفاء، ونعته البطريركية اللاتينية وموقع أبونا ومراكز عربيّة كثيرة في فلسطين والأردن وخارجهما. أما ألمه فكان متشعبًا، وهو آلام الجسد التي أثقلته في السنوات الأخيرة، وآلام الوطن بالتشارك مع أبناء القدس خاصة وأبناء فلسطين عامة وأبناء الشرق بسبب التعصّب الذي نما في السنوات الماضية بطريقة لم تكن خالية من العنف المشوِّه للدين. وتألم بيتر بسبب سوء الفهم أحيانًا، من أوساط عديدة لم تعره انتباهًا وعناية، ولم تقدّر تعبه من أجل إعلاء صوت الكلمة وصوت الحقّ، وصوت العدالة وصوت الإنسانية. لكنّ كل تلك الآلام لم تكن لتثنيه عن الاستمراريّة وعن مواصلة الدرب إلى آخره، وإلى آخر الدرب الذي هو درب الانفتاح على رحابة الأبدية. مع جميع محبيه، وتلاميذه الكهنة، وقرائه، ومحاوريه، والإعلاميين الذين قابلوه، ومع أبناء الأرض المقدسة، الذين سيفتقرون إلى صوته ومرافعته من أجلهم في محافل الأرض، أترحم على الأب بيتر الحبيب، وأشكره على تشجيعه الدائم، فنجاح الآخرين –وطلابه- لم يكن سبب حزن لديه، بل سبب افتخار وسبب تشجيع، وبالأخص في أوقات الشدة والتجارب. والفرح لنجاح الآخرين، فن ودرب قداسة، لا يتقنه كثير من البشر. ويبقى علينا أن نحافظ على إرثه الأدبي والروحي، وكلنا فخر بأن القدس ما كانت أبدًا عاقر، بل أنجبت عمالقة في الفكر والثقافة والتعليم والقداسة. ولا أجمل من الختام بكلمات المزمور 24، ترجمة الأب بيتر، وفيه: "مَن يَصعَدُ جَبَلَ الرَّبّ؟ وَمَن يُقيمُ بِمَقامِهِ المُقَدَّس؟ الَّذي لَم يَحمِل عَلى الباطِلِ نَفسَهُ إِنَّه يَنالُ بَرَكَةً مِنَ الرَّبّ". أبا البياطر، صخر بن يحيى المقدسي، ألف سلام على روحك الطاهرة.